( يكفينا معرفة الموضع الذي يبلغه الشعاع ولا نحتاج إلى ما لا يبلغه وإن عظم في ذاته فما لا يبلغه الشعاع لا يدركه الإحساس وما لا يحس به فليس معلوم ) البيروني
الدنيا تمور والشمس تكورت وانكدرت النجوم والأرض أصبح أسفلها عاليها دواماتٌ وأعاصيرٌ وزوابع والناس بين صاعد إلى أعلى عليين وهابطٍ أسفل السافلين , إقتلعني الإعصار وأخذتني
إحدى الدوامات ورحت أتقلب كما الريشة في مهبّ الريح العاتية , من الأعلى رأيت أناساً , بضع أشخاص على عدد أصابع اليد الواحدة هؤلاء هم فقط من لم يقتلعهم الإعصار , ثابتون على الارض المستعرة ناكسين على رؤوسهم , رأسهم ثابت في الارض وأرجلهم إلى السماء , برغم الرعب الذي أنا فيه تتلاطمني الدوامات ذات اليمين وذات الشمال لكنني حزين عليهم ترى ما الذي فعله أولئك لتنكس رؤوسهم في الارض في يوم مهول كهذا الذي نحن فيه , يالحزني عليهم , بل يا لحزني على نفسي ويا حسةً على عقل السقيم كيف صوّر ذلك لي كالعادة بأني أنا الناجي وكلّ الناس هالكون يالعقل السقيم الذي صوّر لي نفسي وكأني أنا الريح , أسمع زمجرة الإعصار تقول لي إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً .. صعدت بي الزوابع مع أعمدة الدخان وتيّارات الجحيم التي اقتلعت كلّّ شيء .. الناس والبيوت والأثاث وحتى الأحلام والأغنيات والتاريخ والذكريات لم تذر شيئا على الأرض إلا واقتلعته عدا أُولئك الناكسون على رؤوسهم , في دوّامات الإعصار تارةً يرتطم بي بشرٌ وتارةً يرتطم بي حجر ثم يرتطم بي كتاب , زهرة , تفاحة , باب , وكلّما ارتطمت بشي ترك فيَّ ندبة لا تمُ حى كأنها وشم عقاب عما اقترفته في سابق الأيام , أخذني الإعصار إلى شاهق الزمان ورماني في مكانٍ حالك الظلمة شديد العتمة صامتٍ كصمت المقابر , غرفة كروية الشكلّ او هكذا خيل لي , فالشكلّ الكروي اسهل الاشكال التي يمكن تخيلها حينما تضيع او حينما تشعر بالخطر يداهمك من كلّ ناحيةٍ وكأنك غريق في فضاءٍ من الظلام الصامت المخيف
قد اكون تخيلتها كرويةً لأسبابٍ تتعلق بأيامي ما قبل الإعصار لأن عقل السقيم آنذاك كان دوماً ما يصور لي بأني أنا الناجي الوحيد وأني مركز الكون وسيد الارض الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه حتى أتتني الصرصر العاتية , لا يمكن احتساب الساعات او الايام التي امضيتها