ReMed 2017 ReMed Magazine N°3 - Lifestyle | Page 34

ReMed Magazine Littéra’ Tour

بين موسيقى فيينا... و أضواء بودابست

و ها أنا قد عدت من فيينا ، إذا رأيتني من بعيد خلت أنني نفس الشخص الذي تعرف ، لكن الروح هنا تنضج ، و العقل يكبر ما يكبره في عشر سنوات في غيرها من المدن. رحلت منها رحيل الجسد ، اما روحي فلا زالت تحوم هناك تأبى الرحيل ، كيف لا و الحديث في فيينا ليس بالألسن على تعددها و لا باللغات على تنوعها ، اللغة الوحيدة هنا... هي لغة الفن. فبيت بيتهوفن هنا لمن لا يعرفه ، و هنا نظم موزارت سيمفونيته و هنا اشتهر حين كان ذات يوم قائدا لأوركسترا المدينة. و لو لم أرَ‏ روما من قبل ، لقلت أنك أجمل المدن في أوروبا. لا تكاد الألسن تهدأ من ذكر اسم موزارت هنا ، شيدوا له من التماثيل أجملها و قيدوا لصنعها من النحاتين أمهرهم ، كادت تماثيله ان ، تكون أجمل من تلك التي صنعوها للمسيح عليه السلام ، كاد صوت موسيقاه في الشوارع أن يغلب صوت أجراس الكنائس و صلواتها ، كدت أظن أن موزارت يُعتبر إلها هنا أو أن الدين عندهم يكنّى الموزرتية لا المسيحية. بيتهوفن و موزارت و جوزف هايدن و آخرون أسماء قد يستعصي على العربي نطقها ، هي أسماء رجال بنوا مدنية أوروبا ، أسماء رجال أجسادهم تحت الثرى ، و ما لوى الثرى أعمالهم فهي عظيمة عظمة بنيانهم الشاهق الذي يلوي رقبتك إذا ما أردت رؤية قمته ، لعلوه قد لا ترى الشمس هنا إلا حين تتوسط كبد السماء. و إني أعلمكم أني قد دخلت متاحفها و قصورها... و يا ليتني لم أفعل ، أتيت من شمال إفريقيا باحثا عن جمال العمران فترتاح نفسي برؤيته و ما زاد ذلك نفسي إلا تعبا فوق تعب ، كظمآن شرب من بحر واسع فما زاده الشرب إلا ظمآ ،. في أحد القصور وجدت قطعة موسيقية عريقة ، أجهل من أي العصور أتوا بها ، اتراها كانت هنا حين كان موزارت حيا ، أكانت من الآلات التي استعملها لنظم موسيقاه التي سارت من أوبرا فيينا إلى أوروبا و من أوروبا لكامل العالم ؟ أم أنها كانت تستعمل في أفراح أمرائهم القدماء يتراقص على موسيقاها خدمهم ؟ أم تراها كانت هنا حين سقط العثمانييون بمدافعهم أمام الأسوار العملاقة ، يومها ربما استعملت لتعم الأفراح في المدينة الصامدة في وجه سليمان القانوني و جيوشه ، نعم يا من لا تعرف الخبر ، على أسوار هذه المدينة توقف مد و زحف الاسلام في أوروبا ، هنا انسل المرض في جسم الرجل المريض ، و ما اسم الرجل المريض عن قراء التاريخ بغريب. نعم هنا توقف الأتراك ، من هنا ، أقصد فيينا... تبدأ أوروبا. ما رأيت أعلاما هنا غير أعلام النمسا ، فقط علم واحد رأيته مرفرفا فرفرف معه قلبي و اهتزت له نفسي اهتزاز قصبة جوفاء في مهاب الريح ، هنا رأيت علم فلسطين يعلو و الناس تهتف و أنا معهم... « أن افتحوا أقصانا ،» سرعان ما احاطت بنا الشرطة تحرص جمعنا... و لكن أي شرطة و أي شرطي بل أي شرطية ؟ شرطية بعيون زرقاء في يدها مسدس ناعم أشبه بذاك الذي أشتريه لأخي يوم العيد يصوبه عليّ‏ فلا أخاف رصاصته ، أين السلاح هنا أتُراها تُخيفُ‏ جمعنا بمسدسها أم بأعينها ؟ و المسدس في الغمد لا تُخشى مضاربه ، و مُسدّس عينيها ، كما يقول شاعرنا ، في الحالتين بتّارُ‏. « بينك و بين قلبي بندقية » كذا أجاب الدرويش صديقته حين التحقت بجيش صهيون ، لو رأى شاعرنا ما رأت عيني أكاد أقسم بالله ما كان قالها ، إذ لا يجد كلامه حينها في ميزان البلاغة رصيدا. أنا الذي كُنتُ‏ بالأمس أنقم على بني عُثمان حين خاضوا معركة الإقدام إحجاما ففشلوا في حصار فيينا و منعوني من أرى اليوم مئذنة تعلو على أجراس الكنائس ، أمسيتُ‏ أعذرهم و أشفق على ما واجهوه... من الصعب أن تقف في وجه ذلك المسدس الناعم الذي وقف أمامي اليوم. كنتُ‏ أغبط موزارت على موهبته و موسيقاه ، و أتساءل من أين يأتي بذلك الالهام ، فوجدت الجواب حين زرت مدينته التي ترعرع فيها ، لا يأتيه الالهام من شوارعها و ساحاتها و حدائقها فقط ، بل من نهر الدانوب أيضا ، في العادة تُبنى المُدن على ضفاف الأنهار ، لا أعتقد أن هذا ينطبق على فيينا ، أعتقد أن الدانوب أُعجب بها فغيّر مساره و أتى ذليلا مُنصاعا يُريد جوارها ، قد غازله النّيل من القارة السمراء بفكتوريا و القاهرة ، و غازله الميسيسيبي بممفيس و نيو أورليانز بأمريكا فكان ردُّ‏ الدانوب صاعقا « أمّا أنا فأرتمي في أحضان فيينا ، في النهار يحميني عُلُّوُ‏ بيانها من حُرقة الشمس ، و مساءَ‏ أُريح نفسي بأنغام الأوبرا ، أما في الليل فيصطف الناس الهانؤون على ضفافي فرحين مُهلّلين بأنهم حجّوا إلى عاصمة الفن و الفنون »
و ها أنا اليوم اُغادرُها ، لكن كما قُلت لكم ، الشخص الذي أتى ليس نفسه المُغادر ، فالروح و العقل أنضج ، يشتاق الناس إلى الأماكن بعد أن
34 ReMed Automne 2017