كنت في حيرة من أمري. وحين
لمحني مرتبكا قال لي: قول اللي انت
ً
مصدقه، وحكى لي عن لوركا ومقالته
ّ
عن (الداوندي)، فقرأت قصيدة عنوانها
«سيف وتفاحة» ففوجئت به يسبني
ّ
ويلعنني حتى اختتم وصلته من الشتائم
ال
قائ ً: «وحياة أمك التيجي حوش قدم» ،
فداعبته قائ ً: بعينك. ثم صار هذا هو
ال
حديثنا في كل مرة نلتقي مصادفة في
إطار أمسية أو احتفالية أو أية فاعلية
سياسية.. وال أخفى سرًا أني في هذه
المرحلة كانت أفكاري تبدلت ورؤيتي
َّ
للعالم والشعر على وجه الخصوص
اختلفت تمام ً، وكنت أرى أن نجيب سرور
ا
ونجم قد ضحيا بكل الممكن من الجماليات
َّ
حين انحازا بكل قوة إلى القضايا
االجتماعية وما يشغل الناس من هموم،
وأن الشعر أبقى من مشكالت عارضة
قد تتغير، فآليت على نفسي أال أسقط
ّ
في فخ نجم دون أن أدري أن اختياري
ّ
للعامية في حد ذاته يتضمن توجها مماثال
ُّ ً
ً
َّ
َّ
بالضرورة، وبخاصة إذا كان المروج
ِّ
األساسي لها في هذه الفترة هو اليسار
المصري الذي خنق بأيديولوجيته العديد
من الشعراء.
قلب كبير وكريم
مرت سنوات على هذه الحال حتى
دعاني علي الحجار ذات مساء لحضور
تسجيل أغاني فيلم «الفأس في الرأس»
لوحيد مخيمر في األستوديو. استمعت إلى
قصيدة من الشعر المصّى: «أمشير على
ف
نجعنا والريح بتصفر صفر/ كل الدروب
صفصفت ما في حدا في الكفر/ غيرك
ياعود الزان/ ياطرحة األحزان/ قلبي
عليك انشعف/ وأنا قلبي ده خزان/ فيه
ّ
الرفاقة العزاز بستان وضليلة/ ونصل
خنجر خيانة غوط في ذات ليلة/ وفيه
صبايا حاللك يا واحد العيلة/ خايفين
22
ال..
كان الغناء وجبة
أساسية حتى في
غياب رفيق روحه
وأيامه (الشيخ إمام
عيسى) وكان
ً
علينا دائما أن
َّ
نتوقع مباغتة من
األمن في أي وقت
عليك تنكسر ونجدد األحزان».
سمعتها لمرة واحدة فحفظتها حتى
اآلن، وحين انتهى علي من وضع صوته
سألته: من كتب هذه القصيدة؟ فقال لي:
خمن. طرحت ثالثة أسماء ليس من بينهم
َ ِّ ْ
نجم، فأجاب الحجار: هذه الكلمات لعمنا
ّ
أحمد فؤاد نجم، فأجبته على الفور: يبقى
حاروح لو حوش قدم الليلة .. وقد كان.
وحين رآني أحمد فؤاد نجم أمامه للمرة
األول داعبني: مش قلتلك حتيجي يابن
فقلت له: أنا شاتمك سنة من باب
االحتياط .
من يومها، صرت عضوًا دائما في
ً
جوقة نجم ، كيف ال وقد صار بيته
كعبة لكل َّف أو فنان أو سينمائي
مثق
أو مسرحي عربي؟ كما كان وسيظل
صوته ضميرًا ناصعا للشعوب العربية
ً
في مواجهة أنظمتها الفاشية، وصار
نموذجا يحتذى لكل مناضل في أي بقعة
ً
من عالمنا العربي. وظني أنه تجاوز ذلك
ببساطة.
كان الغناء وجبة أساسية حتى في
غياب رفيق روحه وأيامه (الشيخ إمام
عيسى) وكان علينا دائما أن َّع مباغتة
ً نتوق
من األمن في أي وقت حتى عندما نذهب
إلى بيوتنا.. كانت صحبة رائعة ومنتقاة
بعناية، فحولنا نجيب شهاب الدين،
وعصمت النمر، وسعيد عبيد، وإبراهيم
داود، والجبيلي، وكريم الطلياني،
وأسامة خليل، وسعيد صالح، وعادل
إمام، وهاني عنان، وجورج إسحاق،
وعلي بدرخان، ومراد منير، وحسين
عبد الجواد، وكثيرون ال تتسع المساحة
َّ
لذكرهم، حتى عندما هرب إلى (منطاي)
كنا نذهب إليه مثل زوار الفجر لنستمع
ّ
إلى ما كتبه في مشروعه النثري الكبير (
فضفضة فيما مضى) والذي نشر فيما بعد
بمجلة روز اليوسف بعنوان «الفاجومي».
وما ال يعرفه الناس عن نجم أنه كان
ِّيا متمكنا يمتلك صوتا خشنا وعريضا
ً
ً
ً
مغن ً ِّ ً
مكتمل األبعاد، ناهيك عن إحساسه
المذهل بالجملة الموسيقية وكنت أحب
ّ
سماع «حلم» بصوته وهو يتغزل بين
المقاطع ببيرم التونسي والشيخ زكريا.
ويجدر بنا أن نهمس في أذن كل
طاغية: إن لم تقرأ أدبا فلن تنجو، واحذر
ً
غضبة الشعراء، فنجم وأتباعه باقون في
كل ميدان أو زقاق.