يقول اللَّه تعالى في محكم تنزيله:
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) المائدة.
يستخدم العالم اليوم الدراما كوسيلة فعّالة في مجالي التعليم والتدريب لما لها من إبانة واضحة تساعد على وصول الرسالة في سهولة ويسر، ولما لحبكتها القصصية من تأثير بالغ في عقول المتلقين وقلوبهم.. فما بال الدراما وقصة بطلنا الغراب؟!
أخبرنا الله عزّ وجلّ في كتابه العزيز أن أحد ابني آدم اعتدى على أخيه فقتله، ثم احتار ماذا يصنع بجثته، فبعث الله غرابًا يعلمه ماذا يفعل بجثة أخيه. فهنا قد تتبادر إلى الأذهان الأسئلة التالية: ما الغراب وما هو اختلافه عن بقية الطيور؟ ولماذا كلفه الله تعالى بالمهمة الواردة في هذه الآية الكريمة دون غيره من الطيور؟ وهل مع هذا التكليف المهم الذي فيه تكريم للميت ومحافظة على البيئة، هل يستحق أن يتشاءم منه بنو البشر؟
الغراب طائر عجيب يتمتع بأنماط سلوك غير متوقعة حيَّرت العلماء، وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على تميّزه عن غيره من الطيور
نتمي الغربان إلى العائلة الغرابية التي تضم نحو 27 نوعًا تنتشر في معظم أنحاء العالم ما عدا القارة القطبية الجنوبية وأمريكا الجنوبية، وهي من فصائل رتبة العصفوريات أو الحوائم، وهي أعظم رتبة في تعدد أنواع طيورها، وهي تنتشر في جميع أنحاء العالم على اليابسة وتكثر في المناطق المعتدلة وتقل في المناطق الباردة، ومعظمها من الأوابد، أي الطيور المقيمة التي لا تهاجر.
تعتمد الغربان في طعامها الأساسي على اللحوم، غير أن السواد الأعظم منها يأكل الفواكه والخضراوات والطيور والحيوانات والأسماك والحشرات والديدان والجيف.. إلخ.
.
وثبت علميًّا بالدراسة والملاحظة أن الغراب يعدّ من أذكى الطيور وأمكرها على الإطلاق، ولا يدانيه في الذكاء والمكر إلا بعض أنواع الببغاء، ويعلل العلماء ذلك بأن الغراب يملك أكبر حجم لنصفي المخ بالنسبة إلى حجم الجسم في كل الطيور المعروفة.
وما يدل على ذكاء الغراب أنك إذا وضعت له ماءً قليلًا في إناء عميق لا يستطيع أن يصل إليه بمنقاره فإنه يلتقط الحصى ويلقي به في الأناء حتى يرتفع منسوب الماء ويشرب. وما يدل أيضًا على ذكاء الغربان ملاحظة أنها شوهدت وهي تلقي على الطرق العامة ما لم تستطع فتحه من الثمار حتى تقوم السيارات بدهسها لكي تصبح لقمة سهلة سائغة في متناول مناقيرها، كما شوهدت وهي تقلد الصيادين في عمليات صيد السمك بمهارة فائقة يحسدها عليها الصيادون! وأكثر من هذا، لوحظ أنها تعمل على ترطيب الطعام الجاف بالماء.
ليس هذا فحسب، بل وصف العلماء سلوك الغربان بأنه سلوك غريب يتسم بالمكر والخداع والتحايل؛ إذ يمكن للغراب أن يستعين بأحد بني جنسه لكي يسطو على طعام غيره من الطيور حتى لو كان نسرًا أو عقابًا، حيث يأتي أحد الغربان فيشغل الطائر المراد السطو على طعامه بينما يقوم رفيقه بعملية السطو على الطعام دون أن يشعر به الطائر الضحية المغرر به، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على ما يتمتع به من ذكاء.
وكذلك فإن الغربان تمتاز بالعيش في مجموعات متماسكة يحكمها رئيس صارم؛ فلو اقترف أحد أفراد المجموعة ذنبًا ما فإنه يخضع لمحاكمة يديرها الرئيس ويشهدها الغربان، فإذا ما حُكم عليه بما يستدعي موته، سارع غرابان فانقضا عليه ونقراه حتى الموت، ثم يُذهب بجثته إلى مكان فتحفر له حفرة ويُدفن فيها كما فعل غراب ابن آدم الذي ورد ذكره في الآية التي تصدّرت هذا المقال.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن لكل جريمة عند جماعة الغربان عقوبتها الخاصة بها؛ ففي حال سرقة طعام الفراخ الصغار تقوم جماعة الغربان بنتف ريش الغراب السارق حتى يصبح عاجزاً عن الطيران كالفراخ الصغار قبل اكتمال نمو ريشها، وفي حال الإعتداء على عش وتهدمه في مراحل الدفاع عنه تكتفي محكمة الغربان بإلزام المعتدي ببناء عش جديد لصاحب العش المعتدى عليه، وقد يتبع ذلك الطرد من الجماعة إذا تكررت الأخطاء من هذا النوع، وفي حال اغتصاب أنثى غراب آخر فإن جماعة الغربان تقضي بقتل المعتدي ضربًا بمناقيرها حتى الموت.
طائر الغراب
11