فكر قبل أن تفعل
يصدق ما سمعه ورآه ، وظن أنّ الرجل سيناديه بعد أن يبتعد عنه خطوات قليلات ، ولكن هيهات هيهات .. فإنّ الرجل الكبير لم يكترث بانصرافه . وبينما كان الوالي يتجول في السوق همّ أن يفعل شيئاً يأباه الخلق السليم ، فتذكر الحكمة التي رآها مكتوبة على اللوحة بالدكانفكر قبل أن تفعل فأعرض عما كان ينوي صنعه ، وهنالك أدرك أنّه انتفع بالحكمة ، وأيقن أنّ هذه الحكمة يمكن أن تكون له وقاية من شرور كثيرة ، يمكن أن يقترفها ، فتفسد عليه حياته ، ومن ثمّ تحرك سريعاً صوب دكان الرجل الكبير ، ولما وصل إلى الرجل قال له : لقد قررت أن أشتري هذه اللوحة بالثمن الذي حددته أنت ..
فنهض الشيخ الكبير من على كرسيه ، وأمسك بقطعة قماش قديمة ، ومسح اللوحة فأزال بقية الغبار الذي علق بها ، وبعد أن قبض ثمنها وقبل أن يغادر
الوالي الدكان قال له الشيخ : قبل أن أسلمك هذه اللوحة لي شرط . فقال الوالي : وما الشرط ؟ فقال الرجل : شرطي أن تكتب هذه اللوحة على باب بيتك ، وبأي مكان تستطيعه في بيتك بل وعلى أدواتك وملابسك التي تستخدمها قدر استطاعتك !! فوافق الوالي !! مرّت أيام وأسابيع وشهور ، وبينما كان الوالي يعيش في أمن وسلام ، يتنعم في قصره ويحرسه جنده ، ويقوم الخدم على خدمته .. إذا بقائد جنده يقرر اغتيال الوالي لينفرد هو بالولاية !! وبالفعل حبك المؤامرة مع حلاق الوالي بعد أن أغراه بإغراءات شتى . توجّه الحلاق إلى مكان الوالي ، فلما وصل إلى باب القصر رأى مكتوباً على بابه & quot ; فكر قبل أن تفعل & quot ;!! فارتبك الحلاق ، وارتعدت فرائصه هلعاً وخوفاً ، ولكنّه استجمع جرأته ، وعاد لينفذ فعلته .. وبينما هو يمشي في القصر إذا به يقرأ هذه الحكمة في كل مكان وتقع عليه عيناه : & quot ; فكر قبل أن
18
خرج أحد الولاة ذات يوم في جولةٍ بالسوق ، وقد تنكر في زي تاجر ، فمر بدكان قديم شبه خال من البضائع والسلع ، وفيه رجل كبير في السن ، يجلس على مقعد خشبي قديم . نظر الأمير في أرجاء الدكان فلم ير سوى بعض اللوحات ، فسأل الوالي صاحب الدكان : جئت السوق لأشتري .. فماذا عندك ؟ فأجابه الرجل بهدوء وثقة : عندي أغلى بضائع السوق !! تبسم الوالي متعجّباً من قول الرجل ، وقال له : يا رجل أنا لا أرى في دكانك شيئاً يُشترى ، هل أنت جاد فيما قلت ؟ أم أنك تمزح ؟ !! فأجابه الرجل : نعم ، أنا جاد جدّاً ، فبضائعي ثمينة غالية ، فهي تختلف عن بضائع السوق كلّها !! أخذت الوالي الدهشة وهو يسمع هذا الكلام من صاحب الدكان ، وبادر بسؤال الرجل : ماذا تبيع يا رجل ؟ فأجابه : أنا أبيع الحكمة ، وقد بعت منها الكثير والكثير ، وعادت على مَنْ اشتروها بالخير الوفير ، ولم يبق عندي سوى لوحتين !! أمسك الوالي بإحدى اللوحتين ، ومسح عنها الغبار ، فوجد مكتوباً عليها : & quot ; فكر قبل
أن تفعل & quot ; !! تدبر الوالي العبارة مليّاً ، ثمّ التفت إلى الرجل وسأله : بكم تبيع هذه اللوحة ؟
فأجابه الرجل بهدوءٍ وثقة : أبيعها بعشرة آلاف دينار فقط !! ضحك الوالي طويلاً ، في حين كان الرجل ساكناً وينظر إلى اللوحة نظرة تقدير وإعزاز .
وبادره الوالي سائلاً ؛ هل أنت جاد في كلامك هذا ؟ فقال الرجل : نعم ، جاد ، ولا مساومة في الثمن ولا مناقشة !! ضحك الوالي متعجّباً مندهشاً وظن أنّ البائع مختل عقلياً ، فاستمر في ممازحته وقال للرجل : أشتري هذه اللوحة بألف دينار .. فماذا تقول ؟ رفض الرجل دون تردد ، فظل الوالي يزيده حتى وصل
إلى تسعة آلاف دينار ، ولكن الرجل أصرّ إصراراً على السعر الذي نطق به أوّل مرّة ، وهو عشرة آلاف دينار . أنصرف الوالي وهو يضحك ، يكاد لا
تفعل !!& quot ;.. حاول الحلاق أن يهرب من تلك الحكمة ، فكلما رآها بعينيه حاول أن يبتعد عنها فإذا به يجدها في كل أرجاء القصر ، فانتفض جسده من جديد ، وشعر بأنّه المقصود بالعبارة ، وأنّ العبارة تتردد على سمعه ؛ فجرى صوب الوالي ، فلما رآه أدهشه أن يرى الحكمة مكتوبة في الغرفة التي يمكث بها الوالي ، فظن أنّ الوالي قد علم بمؤامرته ، ولما أتى الخادم بصندوق لحلاقة اندهش الحلاق أكثر لما وجد الحكمة مكتوبة على الصندوق : & quot ; ف ِّكر قبل أن تفعل !!& quot ; اضطرب الحلاق ، ونظر إليه ، فإذا بالحلاق بين يدي الوالي منهاراً وهو يبكي ، وصرح للوالي بتفاصيل المؤامرة ، وبينّ له أنّ هذه الحكمة كانت السبب الوحيد الذي صرفه عن تنفيذ الاغتيال ، فنهض الوالي وأمر بحبس قائد الحرس وأعوانه ، وعفا عن الحلاق لصدقه وعمله بالحكمة التي قرأها !! وقف الوالي أمام اللوحة ، وكرر قراءتها وأدرك ثمرتها ، فقرر أن يذهب لصاحب الدكان ليشتري منه حكماً أخرى ، ولكنّه عندما وصل وجد الدكان مغلقاً وقد غطاه التراب ، فلما سأل عن صاحبه ، فأخبره الناس أن صاحبه
قد مات .. فحزن الوالي على صاحب الدكان ، وظل يطلب من اللة لة الرحم ، ويدعو له بالأجر السماوي والمغفرة