aldoha magazine N 75 | Page 14
الدارجة و النفعية
سعيد بنكراد
َ
ُأثيــرت فــي األيــام األخيــرة فــي
المغــرب، قضيــة اللغــة «العاميــة»
ودورهــا المفتــرض فــي التدريــس وإنتــاج
المعرفــة وتداولهــا. ولــم تكــن هــي المــرة
األولــى التــي يدعــو فيهــا َّفــون وأدباء،
مثق
أو فاعلــون سياســيون واقتصاديــون إلــى
التخلــي عــن الفصحــى لصالــح العاميــات
ّ
المحّيــة. فقــد حــدث ذلــك قديمـا فــي مصــر
ل
ً
ّ
ولبنــان، وفــي أقطــار عربيــة أخــرى. وقــد
تــم تدبيرهــا هــذه المــرة فــي المغــرب، ال
َ َّ
ّ
باعتبارهــا بدي ـا للفصحــى فحســب، بــل
ً
باعتبارهــا تشــكل جــزءًا مــن اســتراتيجية
ِّ
تــروم توزيــع الفضــاء اللغــوي بيــن لغات
أجنبيــة تس ـتخدم فــي التدريــس والبحــث
ُ َ
العلمــي، وهــي الســبيل الوحيــد نحــو
التحديــث والرفــاه والتطــور االقتصــادي،
ُّ
وبيــن عاميــة موجهــة إلــى االســتهالك
َّ
وحــده.
ولقــد كان المنطلــق فــي هــذه الدعــوة
مــا يقــال عــن وجــود تقابــل صريــح بيــن
لغــة األم، الســبيل األول للطفــل نحــو
عالــم الحيــاة، وبيــن لغــة فصيحــة ال
ّ
يســتطيع التلميــذ فــك «طالســمها» فــي
مراحــل تمدرســه األولــى. وبنــاء عليــه،
ليــس هنــاك مــن مدخــل لخلــق حــاالت
انســجام بيــن هــذا الطفــل وعالمــه ســوى
اللغــة «الدارجــة» المدعــوة إلــى التحــول
ُّ
ّ
مــن مجــرد تســميات أوليــة خاصــة
ّ
ُ َ َّ
بمحيــط مباشــر، إلــى أداة للتدريــس
وتلقــي المعرفــة، بــل يجــب اعتمادهــا فــي
ّ
تعلــم الكتابــة والقــراءة أيض ـ ً، وســتحل
ا
ُّ
ّ
َّهــا الحق ـ ً، فــي األســاك المتوســطة
ا
محل
والعليــا، اإلنجليزيــة أو الفرنســية،
وذلــك حســب التوجهــات والتخصصــات
ُّ
ُّ
العلميــة.
ويبــدو أن هــذه الدعــوة فاســدة
مــن أساســها لعــدة اعتبــارات، نكتفــي
باإلحالــة علــى ثالثــة منهــا:
ليــس هنــاك مــن تقابــل قطعــي بيــن
41
لغــة «األم» المزعومــة وبيــن الفصحــى،
فأكثــر مــن 08 فــي المئــة مــن الكلمــات
المتداولــة فــي الدارجــة هــي مــن عربيــة
القواميــس واالســتعمال األدبــي، مــع
تحويــرات صوتيــة تــكاد ال تــدرك أحيانـ ً.
ا
ُ َ
وهــو مــا يعنــي أن هــذه الدارجــة ال
تشــكل لغــة مســتقّة بذاتهــا، فــا رســم
ل
ِّ
لهــا، وال ذاكــرة دالليــة ســوى مــا يمكــن
أن توفــره العربيــة ذاتهــا؛ إنهــا مجــرد
ُّــق الفصحــى
شــكل مــن أشــكال تحق
فــي وضعيــات إبالغيــة شــفهية تتســم
َ َّ
بالنفعيــة والوظيفيــة، أي مــا يســتعمل
َ
ُ
فــي تدبيــر شــأن يومــي محــدود مــن حيــث
ّ
عــدد الوحــدات المعجميــة المرصــودة
ُ
لتغطيتــه، ومــن حيــث التنــوع الداللــي
ُّ ُ
أيضــ ً. فعــادة مــا تكتفــي العاميــة
ا
المحّيــة باســتعارة مــا يســمي الشــيء أو
لّ
الظا هــرة بشــكل مباشــر، دونمــا اهتمــام
بالتحديــدات الدالليــة الثانيــة، فتلــك
مضافــات «عرضيــة» يجــب البحــث عنهــا
فــي المخــزون اللغــوي الفصيــح.
لذلــك، فالغايــة مــن الدعــوة إلــى
اســتعمال الدارجــة، ال يعني اســتبدال لغة
بأخــرى، بــل هــو مــا يمهــد الطريــق نحــو
ِّ
ُّــص مــن الفصحــى لصالــح لغــات
التخل
أجنبيــة، هــي أداة التبــادل التجــاري
والمالــي بيــن مركــز «متخــم» بالحضــارة،
ومحيــط يكتفــي باســتيراد نمــاذج جاهــزة
لــم تنتــج حتــى اآلن حداثــة حقيقيــة،
بــل عوضتهــا بـ«تحديــث» برانــي أفــرز
َ َّ َ
ّ
«كائنــات اســتهالكية» ظلــت مشــدودة
إلــى القيــم التقليديــة فــي تدبيــر كل شــيء
َّــق األمــر
فــي حياتهــا. لذلــك، ال يتعل
مــن وراء هــذه الدعــوة باختيــار يــروم
اســتنبات أنمــوذج حضــاري جديــد تبنيــه
لغــة «عالميــة»، بــل هــو فــي أصلــه بحــث
عــن «ربــح اقتصــادي ســريع» بذهنيــات
اســتهالكية رخيصــة. إن ســلوك الداعيــن
إلــى الدارجــة شــبيه بســلوك التاجــر،
ٌ
فعلــى عكــس «الصناعــي» الــذي يســتثمر
علــى المــدى البعيــد فــي اإلنســان واآللــة،
فــإن التاجــر ال يقــوم ســوى بمبادلــة المال
بالمــال، أي مقايضــة بضاعــة جاهــزة
بمقابــل مالــي مباشــر.
وتجــد هــذه النظــرة أساســها فــي
تصــور الداعيــن إلــى الدارجــة للغــة،
ُّ
وهــو مــا يشــكل الســبب الثانــي فــي
ِّ
وجــوب اســتبعادها. فاللغــة فــي
تصورهــم هــي مجــرد أداة خارجيــة ال
ُّ
ُ َ َّ
تأثيــر لهــا علــى الــذات التــي تســتعملها.
فاألساســي فــي التبــادل االجتماعــي
والحــوار اإلنســاني ليــس لغــة تعيــد بنــاء
العالــم فــي مســتويات تجريديــة، بــل مــا
يمكــن تبادلــه مــن أشــياء علــى مســتوى
الحاجــات المباشــرة وغيــر المباشــرة.
وهــذا مــا يتضــح مــن األســباب التــي
َّ
يقدمهــا اإلشــهاريون فــي المغــرب لتبريــر
ِّ
اعتمادهــم الدارجــة أداة لإلقنــاع. فهــم
يعرضــون علــى المســتهلك «بضاعــة»
يجــب أن يتلّاهــا بلغــة «محايــدة» تكتفــي
ق
بتفســير دواعــي االســتعمال والغايــة
والمنفعــة، أمــا مــا يمكــن أن تحيــل عليــه
هــذه البضاعــة مــن انفعــاالت دفينــة ال
تــرى بشــكل مباشــر، فــا يشــكل مبــررًا
ُ ِّ
ُ
ِّ
كافيــا لتغييــر لغــة العــرض.
ً
والحــال أن اللغــة ليســت مــن هــذه
الطبيعــة، وال يمكــن اختصــار وظيفتهــا
فــي توجيــه الكائــن البشــري للتعــرف إلــى
ّ
عالــم موجــود فــي ذاتــه. فنحــن ال نتعــرف
َّ
إلــى العالــم مــن خــال أصــوات تضــع
األشــياء أمــام الحــواس، بــل نــدرك ســرها
ُ
َّ
بواســطة كلمــات ال تســتوعب وجــودًا
َُِ
جاهــزاً، بــل تضمــن التعييــن والتســمية
ّ
موقفــا ورؤيــة وتصنيفــ ً. بعبــارة
ا
ً
أخــرى، إن اللغــة ليســت غالفــا محايــدًا
ً
لفكــر جاهــز، بــل هــي األداة التــي يتخــذ
َّ
مــن خاللهــا الفكــر شــكال (كاســيرير)، فمــا
ً
هــو أساســي فــي الوجــود ليــس ماديــات
ّ