Tarek El Mahaba | Page 16

حياة الشكر

قال أحد الآباء : « ليست موهبة بلا زيادة ، إلا التي بلا شكر ‏«..‏ هناك درجة أخرى من الشكر : هي الشكر على الخفيات ، على ما لا يرُى ‏...‏ إنه شكر من أجل المتاعب التي كان من الممكن أن تصل إلينا ، ولم تصل . وذلك بسبب حفظ الله لنا وعنايته ‏...‏ إن الشيطان بلا شك يبذل كل جهده لضررنا وإسقاطنا . فإن كنا الآن بخير ، فسبب ذلك أن الله تبارك اسمه قد منع الضرر عنا قبل أن يصل إلينا ، أعنى الضرر الذي لا نعرفه ‏...‏ ونحن نشكر الله على هذا الحفظ وهذه الرعاية ‏...‏ طبيعي أننا نشكر الله على الضيقات التي أنقذنا منها . ولكن هناك ضيقات أوقفها في الطريق ومنعها من أن تصل إلينا ، ونحن لا نعرفها . ولكننا نشكره على حفظه لنا منها . إذن شكرنا على إنقاذنا من الضيقة التي نراها شيء . وشكرنا على حفظه لنا من ضيقات لا نراها ، هذا أمر أعظم ‏...‏ صدقونى ، لو أن الله كشف لنا كل ما كان يدُ‏ بر ضدنا في الخفاء ، وقد نجانا الله منه ، ما كانت حياتنا كلها تكفى للشكر ‏...‏ الممزوج بالحب ‏..‏ هناك درجة أخرى ، أعلى من كل ما سبق ، وهى الشكر في كل حين ، وعلى كل شيء . وفيها تكون حياة الإنسان كلها شكرًا ‏...‏ والشكر الدائم لا يحتاج إلى سبب واضح محدد ، وما أكثر الاسباب كما سنذكر فيما بعد . ولكن يكفى أننا في رعاية الله الذي يريد لنا الخير . وهذا اللون من الشكر لا يتوقف على نوعية الحال الذي نحن فيه ‏..‏ هناك درجة نبيلة وسامية جدً‏ ا من الشكر ، وهى الشكر على الضيقات : ليس فقط على الضيقات التي أنقذنا الله منها ، بل بالحري على الضيقات القائمة التي ما زلنا نعيش فيها ، وبالإيان نثق أنها لخيرنا . إن الصبر على الضيقة واحتمالها فضيلة ، والرضى بالضيقة وقبولها فضيلة أكبر . ولكن ما هو أعظم من الكل ، الشكر على الضيقة ، وأعنى الشكر بفرح ، وليس كمجرد واجب . ذلك لأننا إن شكرنا على النعم فقط ، يكون حبنا هو للنعم ، وليس لله معطيها ‏...‏ أما إن شكرناه حتى على الضيقة فإننا نبرهن على أننا نحب الله ذاته وليس مجرد عطاياه . إننا نشكره مهما حدث . ولا نسمح للأحداث المؤلمة أن تقللّ‏ من إياننا بحفظ الله ، أو تقللّ‏ شكرنا له ، أو أن تنزع سلامنا منا ‏...‏ وهذا الشكر له تأثيره على الآخرين ، فيتعزون به ، ونكون لهم قدوة في الضيقات . وقد قلت كثيرًا إن الضيقة سميت ضيقة لأن القلب قد ضاق عن أن يتسع لها . ( انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى ‏(.‏ أما القلب الواسع فإنه لا يتضيق بشيء . وطبيعي أن الذي يشكر على الضيقة سيشكر على كل
‎16‎
الإنسان الشاكر هو الذي يذكر الجميل أو العون المقدم إليه ، ولا ينساه مطلقًا بل يقدّ‏ ره ويشكر عليه . فالشكر في قلبه وعلى لسانه ، لله وللناس . فإن كان الله قد صنع معه خيرًا عن طريق أحد من الناس ، فهو يشكر الله على ذلك ، وأيضً‏ ا يشكر الإنسان الذي كان واسطة طيبة في وصول ذلك الخير إليه . ولكن غالبية الناس الشاكرين ، إنما يشكرون أحيانًا ، أي في مناسبة معينة ، أو على خير بالذات قد وصل إليهم . أما حياة الشكر فتعني أن الإنسان يشكر الله في كل حين ، وعلى كل شيء . فهو يشعر على الدوام أن حياته في يد الله وحده ، وأن الله باستمرار يصنع الخير معه . لذلك فهو يقبل كل ما يأتي من عند الله بفرح ، ويشكر عليه . ويقول في إيان « كله للخير ‏«...‏ ولكن قد يسأل البعض ويقول : نحن نؤمن بلا شك أن كل ما يأتي من عند الله هو خير . ولكن ماذا عن الأمور التي تأتينا من الناس ، وقد لا تكون كلها خيرًا ؟!‏ نجيب على هذا بأن تصرفات الناس حيالنا : إن كانت خيرًا فستصل إلينا بما فيها من خير . ولكن إن لم تكن كذلك ‏-وكانت شرًا مثلاً‏ - فإن الله المحب لنا وللخير - سوف يحوّلها إلى خيرًا ، وتصل إلينا خيرًا في النهاية ‏...‏ لذلك فالمؤمنون الحقيقيون يشكرون الله دائمًا على كل شيء . وحيثما يشكرونه ، لا يفعلون ذلك لمجرد الاستسلام لمشيئته ، أو طاعة لوصيته كأمر مفروض عليهم ‏!!‏ كلا ، فليس هذا هو الشكر الحقيقي ، وليس الشكر هو مجرد ألفاظ تقال بدون اقتناع ، كأداء الواجب ‏...‏ بل هم يشكرون الله من كل القلب ، وبكل الثقة ، متأكدين تامًا أن الله لا يسمح بأن يحدث لهم سوى الخير . وأنه – كضابط للكل – يرقب كل ما يحدث لهم ، ويدبر الموقف لصالحهم . لذلك هم يشكرونه على كل ما يحدث لهم ، واثقين أنه سينتهي لخيرهم . وهنا ترتبط حياة الشكر بحياة الإيان ‏...‏ وحياة الشكر عند المؤمنين على درجات : أقلها الشكر على المعجزات والمواهب الفائقة والنعم العظيمة ، وعلى الخيرات الوافرة والواضحة التي لا يشك أحد في عظم نفعها . وربما في غير ذلك قد لا يشكر البعض ! وقد تر عليهم النعم ( البسيطة ) مرورًا عابرًا ، مع خيرات أخرى يرونها طبيعية وعادية ولا تحتاج إلى شكر ‏!!‏ وهناك شكر أعلى في مستواه ، وهو الشكر على القليل ، ونحن إن شكرنا على القليل ينحنا الله الكثير . ولكن الملاحظ في المستوى العادي أن أي إنسان قد يشكر على شفاء مريض من داء خطير كالسرطان مثلاً‏ . ولكنه إن شكر على الشفاء من دور زكام أو برد ، فإنه يدل على أنه متعود في حياته على الشكر ، سواء على الكثير أو القليل ‏...‏ ولعله من فوائد الشكر ، استمرار النعم وزيادتها . وفي هذا
شيء . والإنسان الروحي يشكر على الضيقات ، لأنها تقوى روحياته وتنحه عمقًا في الصلاة وعمقًا في الصوم ، وتزيد إيانه إذ يرى فيها كيف أن يد الله تعمل ، وكيف يتدخل لمعونته . كما تعطيه خبرات روحية . ولهذا فهو لا يتذمر أبدً‏ ا في حياته مهما كانت الظروف . والذي يارس حياة الشكر الدائم يجد أسبابًا كثيرة تدعوه إلى الشكر . فهو يشكر الله أولاً‏ لأنه خلقه ومنحه الوجود ، بل بالأكثر خلقًا إنسانًا عاقلاً‏ حرًا مريدً‏ ا ، كما يشكره على كل المواهب التي منحه إياها ، ليس فقط على المواهب الفائقة للطبيعة إنما على التي تبدو له طبيعية ، مثل الذكاء ، أو رخامة الصوت ، أو جمال الصوت ، أو القدرة على الإقناع ، أو القدرة على الاحتمال . ويشكر الله على الإيان الذي وُلد فيه ، والذي يشتهيه كل الملحدين ولا يجدونه . يُحكى أن فيلسوفًا ملحدً‏ ا رأى فلاحًا أمميًا راكعًا يصلى من كل قلبه وبكل مشاعره . فقال « إنني مستعد أن أتنازل عن كل فلسفتي ودراستي في مقابل أن أحظى بشيء من إيان هذا الفلاح البسيط الذي يخاطب شخصً‏ ا لا يراه ‏«!!‏ وأنت يا أخي مؤمن ، أفلا تشكر ؟!‏ أشكر الله أيضً‏ ا لأنه يعطيك فرصً‏ ا كثيرة للتوبة . لأن ملايين من الذين في الجحيم يشتهون ساعة واحدة من الحياة أو أقل ، لكي يقدموا فيها توبة ، ولا يجدون ‏..!‏ وأنت إن قرر الله أن يأخذ روحك ، ألا تشتهى بعض دقائق من هذا العمر الذي لا تشكر عليه ‏...‏ أشكر الله على كل إحساناته إليك منذ وُلدت : كم مرة طلبت من الله طلبًا فاستجاب لصلاتك ؟ كم من ضيقة أنقذك منها ؟ وكم من مرض شفاك منه أو أنقذك من الإصابة به ؟ كم باب رزق فتحه أمامك ؟ كم خطية ارتكبتها ولم يحاسبك الله حسب خطاياك ، بل أحتملك ‏!!‏ أتستطيع إذن أن تحصى إحسانات الله إليك ؟!‏ لست أظن ذلك ممكنًا ! فكم بالأكثر لو أضفت إليها إحساناته إلى أحبائك وأقربائك ، والى الوطن كله ‏...‏ اشكر الله أيضً‏ ا على الصحة التي أنت فيها . وكما يقول الحكيم : « إن الصحة تاج فوق رؤوس الأصحاء لا يشعر به إلا المرضى ‏..«‏ إن كثيرين من الذين يرقدون على فراش المرض يشتهون أن يشوا على أرجلهم مثلما تشي . وأيضً‏ ا الذين يُعالجون عند أطباء العيون يشتهون نعمة البصر التي لك . فاشكر على كل هذا وعلى غيره ‏...‏ أخيرًا ، إن شكرت ، فاشكره أيضً‏ ا على نعمة الشكر هذه ، واستمر فيها .