Tarek El Mahaba | Page 15

محبة المديح والكرامة

‎15‎
التعرض لمديح الناس شيء , ومحبة هذا المديح شيء آخر . فقد ينال الإنسان مديحا من الآخرين ولا يخطئ . ولكنه إذا أحب هذا المديح واشتهاه , وأصبح جزءا من رغباته . فحينئذ يكون قد أخطأ . وهكذا نقول : إن الرسل والأنبياء والقديسين والشهداء والقادة الفضلاء ‏...‏ كل أولئك مدحهم الناس ولم يخطئوا .
† علي أن القديسين في كل جيل كانوا بقدر إمكانهم يهربون من المديح أيا كان مصدره . سواء أتاهم المديح من الناس , أو من الشيطان , أو من داخل أنفسهم . وبعضهم كان يتمادى في هذا الهروب . وبعيد عن كل أسباب المديح وكل مناسباته . حتى وصل الأمر إلي أن بعضا من هؤلاء القديسين المتواضعين كانوا يتحدثون عن نقائصهم وأخطائهم أمام الناس , ولا يدافعون عن خطأ ينسب إليهم . حتى إن لم يكن فيهم .
† أما محبو المديح فإنهم أنواع ودرجات : وأقلهم خطأ هو الذي لا يسعى إلي المديح . ولكنه إذا سمع مديحا فيه من غيره , فإنه يسر بذلك في داخله ويبتهج . وقد يبدو صامتا لا يشعر أحد بما في داخله من إحساسات .
† نوع آخر , هو حالة الشخص الذي يبتهج في داخله بسبب ألفاظ المديح التي يسمعها . ثم يحاول أن يستزيد منها . كأن يقول عبارات تجلب له مديحًا جديدً‏ ا . أو يجر الحديث إلي موضوعات مشرفة له . أو يتمني عند سماع المديح بألفاظ متضعة تجلب له المزيد من الثناء .
† نوع ثالث هو حالة الشخص الذي إذ يشتهي المديح , يحاول أن يعمل أعمال بر أمام الناس لكي ينظروه فيمدحوه ! وهذا النوع هاجمه السيد المسيح وقال عنه إنه قد استوفي أجره علي الأرض ‏...‏ ودعا الناس أن يعملوا الخير في الخفاء . والله الذي يري في الخفاء يجازيهم علانية . ولاشك أن الذين يعملون البر في الخفاء , إنما يفعلون الخير حبا في الخير , وليس حبا في المديح . † هناك نوع رابع لمحبة المديح , وهو أصعب من كل ما سبق . وهو حالة الشخص الذي لا يشبع
مديح بعض الناس له , فإذا به يتطوع لمديح نفسه ! وتحدث عن أعمال فاضلة له ‏...‏ وبهذا يقع في الزهو والتباهي والخيلاء ‏...‏ وقد يتمادى في هذا الأمر فيمدح نفسه بما ليس فيه .
† نوع خامس أسوأ مما سبق . وهو حالة الشخص الذي يشتهي المديح وينتظر . وإذا لا يصل إليه , يكره من لا يدحه , ويعتبره عدوًا قد قصر في حقه , فلم يقدره حق قدره , ولم يعترف بفضله ‏...‏ وقد يتمادى في هذا الأمر , فيتضايق أيضا ممن يدحه , ولكن ليس بالقدر الذي كان ينتظره , وليس بالأسلوب الذي يشبع فيه نهمه إلي العظمة والفخر .
† مثل هذا الشخص الذي يكره من لا يدحه , ماذا تراه يفعل بمن ينتقده ؟!‏ إنه ولا شك لا يكن أن يحتمل النقد ولا النصح ولا التوجيه . وطبعا لا يقبل التوبيخ ولا الافتقاد حتى ممن هو أكبر منه كأبيه بالجسد , أو أبيه الروحي , أو أي معلم أو مرشد أو رئيس ! ويعتبر كل نصح أو توبيخ يوجه إليه , كأنه لون من الاضطهاد , يقابله بالتذمر أو بالاحتجاج أو بالثورة والغضب .
† علي أن أسوأ درجة لمحبة المديح في نظري , هي حالة الشخص الذي من فرط محبته للمديح , يريد أن يحتكره لنفسه فقط , فلا يطيق أن يسمع مدحا لشخص آخر . وإلا فإنه يكره المادح ويحسد الممدوح ! وهكذا يعتبر من يتدح غيره , بأنه منحرف عن طريق صداقته . كما لو يشبهه بحالة زوجة تحب رجلا آخر غير زوجها ! ومحب المديح هذا يحاول أن يقلل من شأن الشخص الآخر الذي سمع مدحا له . وربما يتهمه ظالما ويسيء إلي سمعته . وكل ذلك لكي يبقي وهو وحده , ولا شريك له , في إعجاب الناس .
† من كل ما سبق نري أن محبة المديح تقود إلي رذائل عدة نذكر من بينها : فقد تقود من يحب المديح إلي الوقوع في الرياء , محاولا أن يبدو أمام الناس في صورة مشرفة نيرة خيرة غير
حقيقته الداخلية , وقد يتظاهر بفضائل هو بعيد عنها تاما كأن يتظاهر بالصفح وهو حاقد , أو بالحب وهو يدس الدسائس , أو يتظاهر بالصوم وهو مفطر .
† وقد يقع محب المديح في الغضب وعدم الاحتمال . فيغضب من كل من يوجه إليه نقدً‏ ا , أو يخطئ له رأيًا . كما يغضبه من يفضل أحدً‏ ا عليه . وتكون الكرامة صنما يتعبد له محبو المديح في كل حين . وقد تراه ثائرًا في أوقات كثيرة يصيح صارخًا : كرامتي كرامتي .
† وقد يقع محب المديح في الحسد وفي الكراهية . ولا يكون قلبه صافيًا تجاه من يظن أنه ينافسه , أو في من يظن أنه نال كرامة أو منصبا أو مديحا هو أولي به منه ! وقد تعذبه الغيرة والحسد بسبب كل هذا , وقد يجره الحسد إلي أخطاء أخري عديدة .
† وقد يقع محب المديح في حالة عدم استقرار . فلا يثبت علي حاله , وإنما يختار لنفسه في كل مناسبة الوضع الذي يجلب له مديحا في نظر من يقابله حتى لو كان في عكس موقف سابق له ، وكثيرًا ما يقع محب المديح في الكذب أو المبالغة . وكثيرا ما يغطي أخطاءه أو نقائصه بأكاذيب أو ألوان من التحاليل , أو ينسب أخطاءه إلي غيره , ويظلم غيره لكي يتبرر هو , أو يشتهي موت غيره مما نال مركزا يشتهيه هو .
† وعموما فإن محب المديح يخسر محبة الناس . لأن الناس تحب الإنسان المتواضع الذي يقدمهم علي نفسه في الكرامة , والذي يختفي لكي يظهروا هم , والذي يدح كل أحد , ويحب كل أحد , ولا يكره منافسا له . ومحب المديح لا يخسر الناس . إنما يخسر أيضا أبديته . ويبيع السماء وأمجادها بقليل من المجد الباطل علي هذه الأرض الفانية . وكل الفضائل التي يتعب في اقتنائها , يبددها بمحبة المديح . ومحب المديح قد يقع في خداع الشياطين , التي تضلله برؤي وأحلام كاذبة وبظهورات خادعة .