Tarek El Mahaba October Issue | Page 10

القديس الأنبا رويس

القديس الأنبا رويس

حياته الأولى : وُلد في ضيعة مِنْية يمين من أعمال الغربية من أسرة فقيرة . كان أبوه فلاحًا واسمه اسحق واسم أمه سارة ، وأسمياه فريج . وليس من المعروف على وجه الدقة تاريخ ميلاده لكنه عاش في القرن الرابع عشر الميلادي وتنيح في ‎18‎ أكتوبر سنة ‎1405‎ م ‏.)‏ 1 ) كان يساعد أبوه في أعمال الفلاحة فإذا انتهى من عمل الحقل كان يبيع الملح على قعود ( جمل ) صغير ، وقد سمّى قعوده « رويس » ( تصغير لكلمة رأس ) لأنه كان يداعب صاحبه برأسه الصغير . وكان هذا الجمل أليفًا حتى أنه إذا دعاه باسمه كان يّلبي دعوته ، وقيل أن الجمل كان من الذكاء والولاء لصاحبه حتى أنه كان يغطيه إذا نام بدون غطاء ، ويوقظه في مواعيد الصلاة . ولعل أهم ما اتسم به فريج هو تواضعه وحبه ، فكسب حب القرية .
نسكه : مارس عيشة في غاية الخشونة والقسوة وقمْع الجسد ، فكان صوّامًا لا يأكل إلا قليلاً‏ والتافه من الأطعمة ، ولا يلبس إلا ما يستر عورته ويترك باقي جسمه عاريًا معرضً‏ ا لحرارة الصيف وبرد الشتاء ، وكان في ذلك شبيهًا بيوحنا المعمدان . طاف في بلاد القطر المصري ، وكان إذا دخل بلدًا يعمل بيديه ليحصل على ما يقتات به ويتصدق بما يتبقى ، وكثيرًا ما عرض عليه محبوه الثياب الفاخرة والنقود والعطايا لكنه كان يرفضها . . لم يكتفِ‏ بعيشة الحرمان بل كان يصرف حياته صائمًا مصليًا . وقيل عنه أنه كان يصوم يومين وثلاثة انقطاعيًا ، ومرة صام أحد عشر يومًا متوالية . كان مواظبًا على التناول المقدس ، وكان يتناول الأسرار المقدسة في خوفٍ‏ ورعدةٍ‏ ، وكثيرًا ما كان يُظهِر ترددًا عند التناول إحساسً‏ ا منه بعدم استحقاقه . ولما سُ‏ ئِل عن هذا التردد أجاب : « لا يستحق التناول من هذه الأسرار المقدسة إلا من كان جوفه طاهرًا نقيًا كأحشاء سيدتنا الطاهرة مريم التي استحقت أن تحمل المسيح في أحشائها ‏«.‏ ولعل ذلك كان يرجع إلى أن الله كشف عن بصيرته ، فكان يرى مجد الله حالاً‏ على الأسرار المقدسة وقت التقديس في الهيكل فيضيء بلمعانٍ‏ لا يوصف . وُهب من الله إعلانات كثيرة روحية ، وأيضً‏ ا صنع المعجزات ، وكان سبب توبة كثيرين . تارة أعلن أنه رأي الشاروبيم والسيرافيم قيام حول المعمودية يرفرفون حول الطفل بفرح . كان يعمل في غربلة الحنطة ليتصدق على الفقراء . حبس نفسه في خلوة في بيت سيدة تدعى « أم يعقوب » بالقاهرة ، وإذ جاع قدمت له خبزًا . أما هو فأخذ « ردة » مبلولة وأكلها ، فحزنت السيدة . قال لها : « لماذا يغتم
قلبك على أكلي الردة دون الخبز ولا تغتمين علي خطايا الناس ؟ ألا تعلمين أن الخطية تميت الروح ، أما الردة فتسند الجسد على أي الأحوال ؟ وإن كان الجسد يتألم قليلاً‏ فلكي يكف عن الخطية ‏«.‏
سياحته : بلغ إلى درجة السياحة السامية ، فكان ينتقل عبر المسافات في وقت قصير جدًا ويدخل الأماكن وأبوابها مغلقة . فمرة انتقل إلى أسيوط ورجع خلال ساعة أنهى فيها مهمة إنسانية ، ومرة أخرى انتقل إلى الشام ليُنجد مكروبًا . كما وهبه الله معرفة الأسرار المكنونة ، وكان مُنكرًا لذاته ، فقد أنكر حتى اسمه ودعى نفسه باسم جمله . وعندما ألحّ‏ عليه البعض لمعرفة اسمه الحقيقي قال لهم « تيجي أفليّو » أي تيجي المجنون ، والعجيب أن الكنيسة في صلواتها تطلق عليه هذا الاسم « تيجي ‏«.‏ وقد أراد أن يمُ‏ عن في إنكار ذاته فكان يسير في الطرقات عاري الجسم مكشوف الرأس ويسكن في عِشَّ‏ ة من الخوص أو ينام على قارعة الطريق . وكثيرًا ما جلب عليه هذا الأسلوب الغريب تهكمات الناس واعتداءاتهم عليه بالضرب والسب والبصق عليه والرجم بالحجارة . وكان عندما تثور نفسه ضد هذه الإهانات يخاطبها قائلاً‏ : « أين أنا من الشهيد مارجرجس وما احتمله ، أو من يوحنا المعمدان الذي قطع هيرودس رأسه ؟ أين ما أصابني مما أصاب الشهداء من عذاب ؟«‏ ومن فرط العذابات التي كان يتعرض لها كان يحبس نفسه في أماكن نائية ، ويعتزل الناس شهورًا عديدة يصرفها في الصلوات الحارة والأصوام الانقطاعية . وقد نظر الله إلى انسحاق قلبه وحبه وقوة إيمانه : فظهر له السيد المسيح خمس مرات بمجدٍ‏ لا يُنطَق به وخاطبه في أحدها فماً‏ لأذن . وبمثل هذه الرؤى كان يتشجع ويصمد لشتى الآلام ويصمت عن الكلام .
تعزيات الله وسط الآلام : سمع عنه السلطان برقوق واشتهى أن يراه . وحين استبد الأمير سودون بالبابا متاؤوس استدعى الأنبا رويس وصار يسأله عن حياته وأعماله فلم يجبه بكلمة . أمر بضربه أربعمائة عصا حتى سال دمه وهو صامت . طاف به الجند في الشوارع وهم يضربونه ويبصقون عليه ويشدون شعر رأسه ولحيته ، وقد بقيّ‏ صامتًا ثم ألقوه مع تلميذه في السجن . ظهر لهما رب المجد وشفاهما ، وإذ طلب الأقباط المسجونون أن يصلي من أجلهم وكان عددهم ثمانية جاءهم البابا في نفس اليوم ومعه أمر الإفراج عنهم . كان كثيرًا ما يزور بيوت المؤمنين ويخبرهم بأمور ستحدث في المستقبل ويحذرهم من أضرار ومصائب
سوف تحل بهم . وكان القديس معاصرًا للبابا العظيم الأنبا متاؤس الأول ال‎87‎ وكان على صلة به . وفي إحدى المرات قبض الأمير يلبُغا على البابا وعلى مجموعة من المسيحيين ، فلما جاء تلميذه إلى الأنبا رويس وأخبره بما حدث للبابا ، تنبأ له بأن السيدة العذراء ستخلصه . وقد حدث هذا فعلاً‏ إذ هجم أحد الأمراء من أعداء الأمير وحطَّم أبواب السجن وأخرج البطريرك ومن معه وقبض على الأمير يلبُغا وسجنه وضربه حتى مات .
مرضه ونياحته : ختم الأنبا رويس جهاده باحتمال مرض شديد بصبر حتى سُ‏ مِّي أيوب الجديد . فقد مرض تسع سنوات متصلة : ومكث كل هذه المدة طريح الفراش ، صامتًا لا يكلم أحدًا ، محتملاً‏ بصبر عجيب . وقد صرف هذه السنوات في التنهد والبكاء والصلاة من أجل الخطاة الذين كانوا يترددون عليه ، وكان يشفي المرضى الذين يزورونه بينما هو نفسه يعاني من المرض . وعندما علم بنهاية أجله بارك تلاميذه واحدًا واحدًا ومسح جسده بالماء راشماً‏ كل أعضائه من قمة رأسه إلى أخمص قدميه بعلامة الصليب . طلب سيدتنا العذراء مريم في ساعة نياحته فلبَّت طلبه ، كما أخبر بذلك أحد تلاميذه الذي قال : « رأيت في تلك الساعة امرأة منيرة كالشمس جالسة إلى جانب هذا الأب ، وقد أخذت روحه المباركة حسب طلبه ‏«.‏ وكان انتقاله في ‎21‎ بابه تذكار السيدة العذراء ، ودفن بجانب كنيستها بدير الخندق ( منطقة الأنبا رويس حاليًا ‏(.‏
عمل الله معه بعد نياحته : في اليوم الثامن لدفنه سرُ‏ ‏ِق جسده ، فظهر لتلاميذه وأعلمهم بواقع الحال فأعادوه إلى قبره ثانية . وكانت تجري من جسده آيات كثيرة ، فأغرى ذلك جماعة من المؤمنين أن ينقلوا جسده إلى دير شهران بالمعصرة ، فحملوه في سفينة في النيل . وفي طريقهم إلى الدير المذكور ثارت عليهم رياح شديدة وعواصف هوجاء كادت تغرقهم فاضطروا أن يُرجِعوا الجسد ثانية إلى قبره . وفي هذا الجيل ( القرن العشرين ) حاول شخص يدعى أرمانيوس بك حنا مراقب البطريركية أن يُصلِح قبر القديس ، فأمر بهدمه ليبنيه على طراز حديث ، فما كاد العامل يهوي على القبر بفأسه حتى شُ‏ لَّت يمينه فصرخ مستغيثًا ، فأتى كاهن الكنيسة وصلى عليه حتى عادت يده إلى الحركة . ومن ذلك الوقت تُرِك قبره كما هو وكل ما عملوه أنهم بنوا فوقه قبرًا من الرخام دون أن يحركوا الجسد .
‎10‎