Tarek El Mahaba June Issue | Page 4

القلب العطوف

قداسة البابا شنودة الثالث

4
أحدثكم اليوم عن القلب العطوف المملؤ بالحنان والرقة الذي يفيض إشفاقاً‏ على كل أحد ، حتى على الذين لا يستحقون ‏..!‏
وحنو الإنسان على غيره قد يشمل الكائنات جميعاً‏ . فيحنو على العصفور المسكين ، وعلى الزهرة الذابلة ، وعلى الشجرة العطشى إلى الماء . ويحنو على الحيوان الضعيف الخائف من وحش يفترسه !
‏**‏ وقد يكون الحنو من نواحي مادية أو جسدية . كما يكون من نواحٍ‏ نفسية أو معنوية . وخلاصة الأمر أن القلب العطوف يفيض بحنانه في كل المجالات وعلى الكل . فيشفق على الفقير المحتاج ، وعلى المريض المتألم . كما يشفق على اليائس المتعب نفسياً‏ ، وعلى الخاطئ الساقط المحتاج إلى من يأخذ بيده ويقيمه .
‏**‏ والحنان ليس مجرد عاطفة في القلب ، وإنا القلب العطوف تتحول فيه العاطفة إلى عمل جاد من أجل إراحة الغير . ذلك لأن الحنان النظري هو حنان قاصر ناقص ، يلزمه إثبات وجوده بالعمل . فهو لا يحنو بالكلام واللسان ، بل بالعمل والحق .
‏**‏ إن القلب العطوف يمكنه أن يكسب الناس بحنوه . أما القلب القاسي فينفّرهم . لأن القلب القاسي دائماً‏ يحطم ويهدم . وقسوته لا تشفق ولا ترحم . إنها نار تأكل كل شئ ، حتى نفس القاسي ! أما الناس فيحتاجون إلى من يعطف عليهم ، وإلى من يأخذ بأيديهم ، فيشجع الضعيف ، ويقيم الساقط . من يفهم ظروف الناس وإحتياجاتهم وتكون له روح الخدمة ، فيخدم الكل ، ويساعد الكل ويعينهم . ولا يحتقر ضعفات الناس . بل يشددّ‏ الركب المخلّعة والأيدي المسترخية .
‏**‏ القلب العطوف يجول يصنع الخير . ولا يقول عن الساقطين الخاطئين إنهم لا يستحقون . بل يرى بالحري أنهم يحتاجون .
أليس أن الله – تبارك اسمه-‏ وهو في علو قداسته ، نراه يشفق علينا ، ونحن في عمق خطايانا . وهكذا يستر ولا يكشف ! وكم من أناس غطسوا في الشر ، فلم يكشفهم ولم يفضحهم ، ولم يشأ أن يعلن مساوئهم للناس . لأنهم لو
انكشفوا لضاعوا ، وانسد أمامهم الطريق إلى التوبة بعد فقدهم لثقة الناس ‏..!‏
‏**‏ لذلك فأن القلب العطوف لا يتحدث عن أخطاء الناس ، ولا يشّ‏ هر بها ، ولا يقسو في الحكم عليها . بل قد يجد أحياناً‏ لهم عذر ، أو يخفف من المسئولية الواقعة عليهم . وإن قابلهم ، لا يفقد توقيره لهم ، معطياً‏ أياهم فرصة لإصلاح وضعهم . بل أنه قد يضحي بنفسه من أجلهم ، ويحمل بعض المسئولية عوضاً‏ عنهم .
قال أحد القديسين « إن لم تستطع أن تمنع من يتكلم على الغير بالسوء ، فعلى الأقل لا تتكلم أنت ‏«.‏ وقال أيضاً‏ « إن لم تستطع أن تحمل خطايا الناس وتنسبها إلى نفسك لتنقذهم ، فعلى الأقل لا تستذنبهم وتنشر خطاياهم ‏«.‏
‏**‏ إن القلب العطوف يعيش في مشاعر الناس : يتصور نفسه في مكانهم ، ولا يجرح أحد . ويبرهن على نقاوة قلبه بعطفه على الكل ‏...‏ وهو يعرف أن الطبيعة البشرية حافلة بالضعفات . وربما أقوى الناس تكون في حياته أيضاً‏ ثغرات . لذلك فأن القلب العطوف ينظر إلى الناس في حنو ، حتى في سقوطهم أيضاً‏ . وبهذا كان أقوى المرشدين الروحيين هم الذين يفهمون النفس البشرية ، ولا يقسون عليها في ضعفاتها .
‏**‏ إن القلب العطوف ، لا يعامل الناس بالعدل المطلق مجرداً‏ ، بل يخلط بالعدل كثيراً‏ من الرحمة . ولا يزن بميزان عدل جاف حرفي يطبق فيه النصوص . بل أيضاً‏ يقدّر الظروف المحيطة ، سواء كانت عوامل نفسية أو وراثية أو تربوية أو عوامل إجتماعية . أما الذي يصب اللعنات على كل مخطئ ، دون أن يقدّر ظروفه أو يفحص حالته ، فإنه قلب لا يرحم .
‏**‏ القلب العطوف لا يحكم على أحد بسرعة . بل يعطي كل أحد فرصته للدفاع عن نفسه وتوضيح موقفه .
وهو لا يكثر اللوم والتوبيخ ‏..‏ وإن وبّخ ، فإنا يكون ذلك بعطف وليس بقسوه . وقد يقدّم لتوبيخه بكلمة تقدير أو كلمة حب ، حتى يكون التوبيخ مقبولاً‏ . وإن إحتاج الأمر منه إلى حزم وشده ، فقد يفعل ذلك مضطراً‏ . ولكنه في مناسبة أخرى يصلح الموقف . ويعالج بالحنو نفسية ذلك المخطئ .
‏**‏ والقلب العطوف لا يُخجل أحداً‏ ولا يجرح أحداً‏ . وقد يشير إلى الخطأ من بعيد بألفاظ هادئة . وربما بطريق غير مباشر ، وربما في السرّ‏ وليس في أسماع الناس .
أما الذي يرجم الناس بالحجارة ، فعليه أن يتروى ، لئلا يكون بيته من زجاج ‏...‏ وليعلم أن كل الفضائل بدون المحبة ليست شيئاً‏ ، وأن المحبة تتأنى وترفق ، وتكسب الناس بالحنو ، ولا تخسرهم بالقسوة . ورابح النفوس حكيم .
‏**‏ أيضاً‏ القلب العطوف دائماً‏ يعطي ‏..‏ وهو يعطي في حب ، وبإستمرار ، دون أن يُطلب منه ، بل بدافع داخل ‏..‏
إنه دائم التفكير في إحتياجات الناس ليقوم بها ، دون أن يقولوا له .
‏**‏ هذا القلب العطوف يريد أن يريح الناس وأن يسعدهم . وإن وُضعت في يده مسئولية ، يستخدمها لراحة الناس . وإن وهبه الله ثروة أو سلطة أو أيه إمكانية ، فإنه يستخدمها أيضاً‏ لأجل راحة الناس ، كل الناس .
‏**‏ والقلب العطوف لا يستطيع أن ينام ، إن عرف أن هناك شخصاً‏ في تعب أو إحتياج . بل يظل يفكر ماذا تراه يفعل لأجله . لذلك كان من المستحيل على مثل هذا القلب أن يؤذي أحداً‏ ، لأنه يتألم لآلام الناس أكثر من تألمهم هم ‏...‏
‏**‏ والقلب العطوف يعطي من حبه وليس من مجرد جيبه ، ويُشعر الآخذين من عطائه أنه من إنسان محب ، وليس مجرد محسن . وهو يعطي الكل . ولا يقتصر على الأصدقاء والأحباء وذوي القربى أو اخوته في الدين والمذهب ، بل هو يريح الجميع .
‏**‏ وهو يعطي بكور إيراداته ، أي أوائل ما يصل إليه لكي يبارك الله الكل . يعطي المرتب الأول الذي يتقاضاه ، والعلاوة الأولى ، وأول ما يصل إليه من إيراد . فالجرّاح مثلاً‏ يعطي أجر أول عملية يجريها ، والطبيب يعطي أجر أول كشف ، والمدرس يعطي أجر أول درس خصوصي . والصانع يقدم أجر أول عمل يقوم به . والزارع يعطي أول حصيد أرضه ، وأول ثمر شجرة . كل ذلك يُقدّم عطية للمحتاجين والمعوزين .
‏**‏ وأجمل ما في العطاء أن يعطي الإنسان من اعوازه ليسد إحتياج غيره . وفي هذا منتهى الحب والحنو . لأن فيه تزول الذاتية ، وتحل محلها محبة الغير ، بل تفضيل الغير على المعطي نفسه . وفي كل هذا ، يشعر القلب العطوف إنه إنا يعطي من مال الله لعيال الله ، دون أي فضل من جهته ! وكيف ذلك ؟
في الواقع أننا لا نعطي شيئاً‏ من مالنا ، بل من الله الذي أعطانا ما نعطيه ، وأعطانا أيضاً‏ موهبة العطاء . فكل شئ نلكه هو ملك لله . ونحن مجرد وكلاء على ما عندنا من مال ، قد استودعنا الله إياه لكي ننفق منه على وجهات الخير . وهو الذي يعطي القلب العطوف ما فيه من عطف وإشفاق .