هل تحب من يحبك فقط ؟
« لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّ ارُونَ أَيْضً ا يَفْعَلُونَ ذلِكَ ؟ وَإِنْ سَ لَّمْتُمْ عَلىَ إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ ، فَأَيَّ فَضْ ل تَصْنَعُونَ ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضً ا يَفْعَلُونَ هكَذَا ؟« ( متى5 (. 47 ، 46 :
حين يطرح الله سؤالاً للإنسان يكون لديه أكثر من هدف : فقد يكون لتغيير فكره ، أو يكون دعوة للاستيقاظ من غفلة ، أو قد يكون لكشف ضعف معين ، أو للتأكد من وجود فضيلة في حياة هذا الإنسان ..
وسؤال الله لنا اليوم : هل تحب من يحبك فقط ؟ سؤال هام ونحن في بدايه أيام الصوم الكبير . ففي العهد القديم في شريعه موسى قيل : عين بعين وسن بسن ، أمّا في العهد الجديد - إذ جاء يسوع المسيح لا لينقض بل ليكمل - فيقول : هل تحب من يحبك فقط ؟ فالمعاملة بالمثل ليست من المسيحية في شيء .
وقد يتساءل البعض كيف أحب من لا يحبني ؟ والإجابة عند الله أنه يريدنا أن نعامل الناس كما يعاملهم هو ، فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ، ويمطر على الأبرار والظالمين ، بدون تمييز ؛ إجابه واضحة من الطبيعة التي تعامل الناس كما يعاملهم الله ، فهو يعامل البشر من خلال الحب ومن خلال الرحمة . من خلال الحب كالشمس التي تشرق كل يوم ، ومن خلال الرحمة مثل المطر ، فالمطر يجعل الأرض تثمر معطية الخير للبشر .
الشرائع القانونية في العهد القديم كما في العهد الجديد ، تناسب بين الجريمه والعقاب . فإن أصاب أحد عين إنسان في العهد القديم ينال عقابًا يتناسب مع الجريمة . لكن لما جاء السيد المسيح وضع أمامنا مبدئين للتعامل مع كل البشر بدون استثناء ، فلا يوجد فرق بين البشر : لا لون لا جنس ولا عرق ولا اعتقاد ولا أي شيء .
المبدأ الأول : يجب ألا نلجأ إلى الانتقام لأن الانتقام يزيد الشر . فإن رددت على الشر بشر أصبح هناك شرَّان ، ويتضاعف الشر ، وندخل في دائرة لا تنتهي . فلابد أن نكسر حلقة الشر ، ولا نلجأ إلى الانتقام لأن الله يقول : « لي النقمة أنا أجازي » ( رومية12 :
(. 19 هو يري وهو يدبّر . المبدأ الثاني : أن يكون الإنسان محسنًا نافعًا للآخرين ، وليس مجرد السكوت على الشر . فإن كنت لا تنتقم هذا نصف الطريق ، والنصف الثاني أن تكون نافعًا للآخر . يقول لنا الرب : « مَنْ سخَّرَكَ ميلاً واحِ دًا فاذهَبْ معهُ اثنَينِ . مَنْ سألكَ
فأعطِ هِ ... ومَنْ أرادَ أنْ يُخاصِ مَكَ ويأخُذَ ثَوْبَكَ فاترُكْ لهُ الرِّداءَ أيضً ا ( أي أن تكرمه (« ( متى5 42-40 : (. هذه المحبة التي
نقدمها للآخر هي التي تكسر فيه شوكه الشر ، فليست هناك وسيلة لنزع الشر من الناس سوى أن تحبهم . فكيف يخرج الشر من إنسان إلاّ إذا رأى آخر يحبه ؟ لذا أضع أمامك هذا السؤال ثانيةً : « هل تحب من يحبك فقط ؟«. هذه ليست المسيحية ، فالإنجيل يقول : « إنْ أحبَبتُمُ الّذينَ يُحِ بّونَكُمْ ، فأيُّ
أجرٍ لكُمْ ؟ أليس العَشّ ارونَ أيضً ا يَفعَلونَ ذلكَ ؟«. المسيحية هي شريعه الكمال ، وتفوق الإنسانية . هي تجعل من الإنسان أكثر رفعة من الإنسان الترابي . لكن الإنسان الروحي بالأكثر يسلك بشريعة الكمال واضعًا أمامه شخص السيد المسيح .
فمثلاً الوصية التي تطالبنا : « من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر » نجد صعوبة في تنفيذها بحسب الطبيعة البشرية ، التي تفترض أن أرد اللطمة بمثلها ، فمن يلطمني يفعل شرًا ، وإن رددت عليه بطريقته أكون فعلت شرًا مثله . حينها أجد أنني تساويت به ودخلت في دائرة لا تنتهي . فالله حين قال : « من لطمك على خدك الأيمن حوّل له الآخر أيضً ا » قصد أن أصبر عليه ، وأعطي له فرصه ليراجع نفسه ، حتى ينتبه لنفسه ويدرك خطأه وهذا ليس ضعفًا ، بل فيه كسب للآخر . لقد رأيت مرة موقف بهذه الصورة بنفس الفعل كما في آيات الإنجيل ، لدرجة أن الشخص الذي ضرَ َب بدأ يبكي ويصرخ ويركع على الأرض ، وبدأ يحس بمقدار الخطأ الذي ارتكبه .
صوره أخرى هي « من أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك ...«، هنا حالة خصام أو حالة ضرر لحق بما تمتلكه ؛ كيف تعالج مثا هذا الموقف ؟ كيف من أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك ، تترك له الرداء ؟! اترك له الرداء أي اصنع معه سلامًا ، اِكسر شوك الشر التي فيه .
« مَنْ سخَّرَكَ ميلاً واحِ دًا فاذهَبْ معهُ اثنَينِ «، من سخرك تعني من ظلمك وكبت حريتك ، والكتاب يقول لنا عن مثل هؤلاء أن اذهب معه ميلين ! حكيت لكم قبلاً عن شاب تخرج من كليه الآداب ولم يعثر على وظيفة ، فعمل نقّاشً ا في بلد شقيق ، وطلب منه شخص أن يبيّض له منزله ، وسأله عن المدة التي يحتاجها لإتمام العمل ، فأجاب الشاب بأنه يحتاج 20 يومًا تقريبًا . وفي اليوم ال18 ، أي قبل انتهاء العمل بيومين ، افتعل صاحب البيت خلافًا مع الشاب وطرده حتى لا يعطيه أجره ، وهذا ظلم . انصرف الشاب حزينًا لكنه عاد في اليوم التالي طالبًا من صاحب المنزل أن يسمح له بالانتهاء من العمل . تعجب صاحب المنزل ، وأخذ يراقب الشاب الذي أكمل عمله بمنتهى الأمانة ، وعندما أنهى عمله سأله عن كيف استطاع أن يفعل هذا ؟ فأجابه الشاب : « أنا اتفقت معك أن أبيّض لك بيتك . أنت صرفتني وظلمتني وهذا شأنك ، لكن أنا سأتمم ما اتفقت معك عليه «. وانبهر الرجل بالشاب وأمانته ، وجعله شريكًا له في كل أعماله ، وانفتحت له أبواب الرزق الواسع جدًا ... وقيسوا على هذا أمثلة كثيرة ممكن أن يعيش فيها الإنسان . مقاومة الشر بمثله ممكن تزيده ، لكن الشر لا يمكن أن يُهزَم إلاّ بالخير والصلاح .
شريعة المسيحية التي قدمها لنا السيد المسيح في العظه على الجبل هي لكل يوم ، وهي آيات عملية صالحة للتطبيق في كل يوم .
السؤال الذي يطرحه الرب علينا : هل تحب الذي يحبك فقط ؟
إذا أحببت من يحبك فقط ، فأنت لا تحيا المسيحية الكاملة بعد ، بل لا زلت في نصف الطريق ، لكن عندما تمتد محبة الإنسان لكل أحد يكون قد وضع قدمه على طريق شريعة المسيح . تذكروا يوسف الصديق مع إخوته الذين أبغضوه ، أمّا هو فلم يحمل لهم أيّة بغضة برغم كل ما فعلوه معه ؛ فمواجهه الشر لا تكون إلا بالخير العملي . تذكروا أيضً ا السيد المسيح وهو على الصليب مُحاطًا بمن أبغضوه ، ولكننا وجدناه يطلب لأجلهم : « يا أبَتاهُ ، اغفِرْ لهُمْ ، لأنَّهُمْ لا يَعلَمونَ ماذا يَفعَلونَ » ( لوقا23 (. 34 :
أحيانًا في مجتمعاتنا لا يوجد عدو بالمعنى الحصري للكلمة ، لكن قد يوجد من لا نقبله ، فماذا تفعل مع مثل هذا ؟ هل تخاصمه ؟ تتجنبه ؟ تشوه صورته ؟ تشكوه ؟ كل هذه العلاجات مرفوضة ، أمامك علاج واحد : أن تزيد محبتك له ! أظنكم تذكرون قصة المعلم إبراهيم الجوهري عندما شكا له أخوه أن هناك من يعايره ويشتمه ، فأجابه المعلم إبراهيم الجوهري بأنه سيقطع لسان هذا الشخص ، فسرُ َّ أخوه بهذا . أمّا المعلم إبراهيم فقد أكثر العطايا لذلك الشخص ، وهكذا قطع لسان الشر .
واجه البغضة بالإحسان ، و « صلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم «. عجيبة المسيحية ! تصور أنك لا تفعل مثل الذي يسيء إليك ، بل تحوّل هذه الإساءة لمادة للصلاة . الإنسان الذي يسيء إليك بالكلام أو بإطلاق الإشاعات أو تشويه السمعة ... الخ ، يقول لنا السيد المسيح أن العلاج هو أن نصلي لاجلهم ! لا تنسوا أن من يسيئون إليكم هم أيضً ا لها قيمتها أمام الله مهما كانوا .
إن كان حبك لمن يحبك فقط ، فأنت لم تعرف المسيح بعد ، ولذلك في هذا الصوم ارفع قلبك واطلب من الله أن ينزع من من قلبك أيّة بغضة أو إساءة أو خاطر رديء تجاه أي إنسان .
عندما نتحرر من الكراهية والمشاعر السلبية نستطيع أن نقتني فضائل عظمى من الله ، نستطيع أن نقتني الحب الكامل ، حب الأعداء . نقتني حب الرحمة التي نقدمها لكل إنسان . من يقرأ في تاريخ العصور الحديثة يجد أن الجمعيات التي ظهرت في العالم لتخدم الناس في أي مكان ، نشات بفكر إنجيلي ، مثل جمعية الصليب الأحمر التي تخدم مصابي الحروب . المسيحية ترتقي بالإنسان العادي ليكون مسموحًا بنعمه الروح القدس ، ليصير الإنسان روحيًا ، ويستق أن يُطلَق عليه « مسيحي » بالحق وليس بالكلام ، بالفعل وليس بالمهظر .
هل تحب من يحبك فقط ؟ هذا هو سؤال السبت الأول في الصوم المقدس . وإجابة السؤال نجدها في العظة على الجبل ( متى5 48-38 : (. يعطينا مسيحنا أن تكون حياتنا حياة نقية ، ونمتلك طاقة الحب من أجل كل أحد . لإلهنا كل مجد وكرامة من الآن إلى الأبد . آمين .
16