نياحة القديس
اغسطينوس
)22 مسرى(
يف 13 نوفمرب 354 م. مبدينة تاجست من أعامل نوميديا بأفريقيا الشاملية وُلد أغسطينوس،
وكان والده باتريكبوس وثنيًا فظ األخالق، أما والدته مونيكا فكانت مسيحية تحتمل رشور
زوجها وحامتها بصرب عجيب، وبطول أناتها كسبت االثنني حتى أن رجلها قبل اإلميان واعتمد
قبيل نياحته.
كان كل همّ والده أن يرى ابنه رجالً غنيًا ومثقفًا، وكان معلموه الوثنيني ال يهتمون بسلوك
التالميذ، فنشأ أغسطينوس مستهرتًا يف حياته مياالً للكسل.
إذ بلغ السادسة عرشة من عمره أرسله أبوه إىل قرطاجنة ليتمهر يف البيان، هناك التقى
بأصدقاء أرشار، وصار قائدًا لهم يفتخر بالرش، فتحولت حياته إىل املسارح والفساد. أما عن
دراسته فقد عكف عىل دراسة الفقه والقوانني مشتاقًا أن يرتقي إىل املحاماة والقضاء، وقد
تضلع يف الالتينية حتى افتتح مدرسة لتعليم البيان وهو يف التاسعة عرشة من عمره.
أعجب أغسطينوس مبذهب شيرشون، فقرأ كتابه »هورطانسيوس« الذي أثار فيه الشوق إىل
العفة والبحث عن الحق. قرأ أيضً ا الكتاب املقدس لكن ليس بروح اإلميان والتواضع وإمنا يف
كربياء، فأغلق عىل نفسه وسقط يف »املانوية«.
إذ رأت مونيكا ابنها قد انحرف سلوكيًا وعقيديًا، وصار عرثة لكثريين طردته من بيتها، لكن
مبحبتها ردته ثانية، وكانت دموعها ال تجف طالبة خالص نفسه.
رأت القديسة مونيكا يف حلم أنها واقفة عىل قطعة خشبية )ترمز لإلميان( والكآبة تشملها،
وإذ بفتى يلمع بهاؤه أمامها ويشع الفرح من محياه ينظر إليها ويسألها عن سبب حزنها،
وإذ أجابت، قال لها: »تعزي وال تخايف، فها ولدك هنا وهو معك«. التفتت مونيكا لتجد ابنها
واقفًا معها عىل الخشبة، فتأكدت أن الله استجاب طلبتها.
يف روما:
يف عام 382 م. أوعز إليه أصدقاءه بالسفر إىل روما لينال مجدًا وغنى أعظم، فحاولت والدته
صده وإذ مل تفلح عزمت عىل السفر معه. احتال عليها بقوله أنه ذاهب ليودع صديقًا له
عىل السفينة، فسافر تاركًا إياها غارقة يف دموعها.
دبرت العناية اإللهية أن يزور سمبليانس حيث بدأ يخربه عن قراءته يف كتب الفلسفة
األفالطونية التي عني بنرشها فيكرتيانوس، فأظهر سمبليانس رسوره بذلك، ثم عرف
أغسطينوس منه عن اعتناق فيكرتيانوس لإلميان املسيحي بروح تقوي، فشبت فيه الغرية
لالقتداء به، لكنه كان ال يزال أسري العادات الرشيرة.
توبته:
زاره مؤمن حقيقي من كبار رجال الدولة يدعى بنسيانس، فوجده مع صديقه أليبوس
وبجوارهام بعض رسائل معلمنا بولس الرسول، فظنها أحد الكتب الفلسفية، لكن أغسطينوس
أخربه بأن له زمانًا ال يشغله سوى مطالعة هذه األسفار، فدار الحديث بينهام حتى تطرق
بنسيانس لسرية القديس أنبا أنطونيوس وكيف تأثر بها اثنان من أرشاف البالط فرتكا كل يشء
ليسريا عىل منواله، وهنا التهب قلب أغسطينوس بالغرية، كيف يغتصب البسطاء األميون
امللكوت ويبقى هو رغم علمه يتمرغ يف الرجاسات. وإذ مىض بنسيانوس، قام أغسطينوس
إىل البستان املجاور ملنزله وارمتى عىل جذع شجرة تني، ومتثلت أمامه كل رشوره، فصار
يرصخ: »عاصفة شديدة... دافع عني... وأنت فحتى متى؟ إىل متى يارب؟ أتغضب إىل األبد؟
ال تذكر علينا ذنوب األولني. فإنني أشعر بأنني قد اُستعبدت لها. إىل متى؟ إىل متى؟ أ إىل
الغد؟ وملا ال يكون اآلن؟! ملا ال تكن هذه الساعة حدًا فاصالً لنجاستي؟« وبىك مبرارة...
كان ذلك يف عام 386 م.، بالغًا من العمر 32 عامًا حني تغريت حياته وتجددت بنعمة الله،
فتحولت القوة املحرتقة رشًا إىل قوة ملتهبة حبًا...
عاد القديس أوغسطينوس إىل أليبوس ليذهبا معًا إىل مونيكا يبرشانها أن صلواتها التي دامت
قرابة 30 عامًا قد استجيبت، ونبوة القديس أمربوسيوس قد تحققت، هذا الذي سبق فرآها
تبيك فقال لها: »ثقي يا امرأة أنه من املستحيل أن يهلك ابن هذه الدموع«.
عزم أغسطينس بنعمة الله عىل ترك تدريس البيان وتكريس حياته للتأمل يف كلمة الله
والخدمة، فاعتزل ومعه والدته وصديقه أليبوس وابنه أدياتس )غري الرشعي( وبعض أبناء
عمه وأصدقاءه يف كاسيكاسيوم Cassiciacum بجوار ميالن حيث أقام ستة شهور يتأهب
لنوال رسّ العامد، ويف ابتداء صوم األربعني عام 387 م. ذهب إىل ميالن واعتمد عىل يدي
األسقف إمربوسيوس.
ومن الجدير بالذكر أنه يف األغلب الشجرة التي ارمتى تحتها هي زيتون، حيث يوجد اآلن يف
الجزائر شجرة زيتون يُطلَق عليها يف الحي »زيتونة القديس أوغسطني«.
يف ميالنو:
أرسل حاكم ميالن إىل حاكم روما يطلب أستاذًا يف البيان، فبعث إليه أغسطينوس، وقد دبرت
له العناية اإللهية االلتقاء بالقديس أمربوسيوس أسقف ميالن، الذي شمله بحبه وحنانه
فأحبه أغسطينوس وأعجب بعظاته، وكان مداومًا عىل سامعها ملا فيها من قوة البيان دون
اهتامم بالغذاء الروح الدسم.
سمع من القديس أمربوسيوس تفاسريه الروحية للعهد القديم الذي كان املانيون يتجاهلونه،
كام سمعه يف رده عىل أتباع ماين وغريهم من الهراطقة، فبدأ نور الحق ينكشف أمامه. هنا
أدرك أغسطينوس ما للكنيسة من عالمات أنها من الله: فيها تتحقق نبوات العهد القديم،
وفيها يتجىل الكامل الروحي، وتظهر املعجزات، وأخريًا انتشارها بالرغم مام تعانيه من ضيق.
أبحرت مونيكا إىل ميالن ليلتقي بها ابنها ويبرشها برتك املانوية، لكن دون قبوله اإلميان
الحق، إذ كان منهمكًا يف الشهوات، حاسبًا حفظ العفة أمرًا مستحيالً .
بدأ أغسطينوس يقرأ بعض كتب األفالطونيني التي نقلت عن اليونانية بواسطة فيكرتيانوس،
التي انتفع بها لكنها مل تقده لإلميان.
عاد يقرأ الكتاب املقدس خاصة رسائل معلمنا بولس الرسول فأعجب بها، خاصة يف ربطها
العهد القديم بالعهد الجديد...
8